الموقف الراهن التركي في الواقع

وأخيرا تهيَّأت الفرصة الذهبية لأجهزة الإعلام الأمريكية والغربية للاعتداء على حكومة طيب أردغان، وإنها كانت في المرصاد لها منذ أن تولَّى أردغان الحكم، حتى بدأت حكومته المشروع الإنشائي لمتاجر على المنتزه الغازي، فهاجم عليها الإعلام الأمريكي والغربي موجدة بارود الدعاية لهيئات صون البيئة من التلوث وقوى معارضة الإسلام ضدها.

فتخطيطاً بدأت التظاهرات منذ الحادي والثلاثين من أيار، واشتدت شيئا فشيئا، وبثت في مشارق تركيا وغربها، وإن هذه التظاهرات تختلف عما أقيمت في السبعينيات حيث عمت التخريب والدمار والمجازر الإنسانية في ذاك العهد، وبذلك استولى قادة الجيش المعادين للإسلام جياع السلطة على البلاد كله بإسقاط نظام الحكومة المنتخبة مستترين وراء هذه الأحداث، إذ وقع من تلك الحوادث خللٌ في حياة المواطنين العادية وأمن البلاد، فاستطاب الشعب آنذاك جيش الطغاة البغاة.

ولكن منذ أن تولّى حزب العدل والتطور الحكم، ركَّز على اقتصاد منهارٍ للبلد، واختار خطة الاقتصاد الحرة بإنهاء سيطرة دواوينية على صناعة وتجارة، فسار البلد على رفاهية وخرج عن كساد السوق وأزمات اقتصادية، مما

جعلت حكومة أردغان ناجحة وطار صيته بين شعب، حتى فازت في الانتخابات من 2002مـ إلى 2012مـ بغالبية مسبقة لم يعد لها نظير، واستنادا إلى هذا التأييد الجمهوري أزال أدرغان التدخل العسكري، وأكّد سلطةَ القوم وألجم القادة المتمرِّدة للجيش، وبدأ بالسياسة الخارجية الحرَّة بمعناه الحقيقي لإنقاذ تركيا من ضغوط أمريكا وأقام علاقات بالبلدان العربية الإسلامية بدلا من البلدان الغربية العلمانية، بما فرح به الملك عبد الله وأعلن أنَّ تركيا شقيقا للسعودية.

وتطوراً في هذا المسلك الحسن، لبّى أردغان استغاثة محاصري غزة، وأرسل لإغاثتهم وتسليتهم قافلة بحرية اغتصبها النهاب الإسرائيليون وسط البحر وأهلكوا تسعة من الناشطين المتطوعين المساعدين لمحاصري غزة، واحتجاجا على الشنيعة أخرجت تركيا سفير إسرائيل، وشكت إلى مجلس حقوق الإنسان العالمي إعتداء الكيان الصهيوني وجوره.

ولم يكتفى أدرغان على هذا القدر، بل أقرَّ لِـحركة الحماس كقوة حاكمة لغزة، ودعمها بالمال، رغم الضغوط التي مارسها رئيس الولايات المتحدة أوباما على تركيا، وإن هذا الحدث بذاته من الأسباب التي أغضب رئيس الوزراء الإسرائيلي نيتن ياهو من تركيا حتى أمر بالهجمة الإسرائيلية على سفينة الإغاثة "فريدم فوتيلا".

هذا ما قامت به حكومة أردغان من السياسة الخارجية، وأما من ناحية السياسة الداخلية، فكافحت حكومة أردغان حروباً طائفية قد استمرَّت منذ ثلاثين سنة بالمصالحة مع الزعيم الأسير لحركة العمال الأكراد "عجلان"، وأرضت الأكراد بالإذن بالدراسة الابتدائية باللغة الكردية في المناطق الجبلية الكردية، مما غضب به قادة الجيش واستكرهوا هذه الخطة استكراها شديداً، لما أصيبوا في أغراضهم الشخصية، حيث ابتزُّوا جنوب شرق المحافظة ذات الأغلبية الكردية، وغصبوا المساكن الكردية المحلية، وقبضوا عليها كرهائن، وإن هذا الفضاحة السيئة من قبل الجيش تجاه الأكراد أثارت غضبهم وأجبرتهم أن يخوضوا مع النظام التركي في حروب دامية، ويوسِّعوا دائرة الحرب إلى مناطق عامرة كـ استنبول وأنقرة، مما أدّى إلى هلاك ثلاثين ألف نسمة كردية حسب الإحصائيات، وانقطاع قدوم السياحين إلى تركيا بينما تأثرت مشاريع انمائية تأثراً بليغا، ولم يتوقف الأمر على هذا القدر، بل نمت في الأكراد أحاسيس الثأر والانتقام ضد الوطن التركي، حتى استعمله الاتحاد الأوربي كحيلةٍ معترضا على عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي كما استعمل نقطة التفوقٍ العسكري في دستور تركيا كحيلة أيضاً، حتى أزال أردغان مثل هذه النقاط من الدستور التركي إتماما للحجة.

إنَّ مثل هذه الانقلابات التي حدثت في حكومة أردغان، أسخطت القوَّاد المتمرِّدين للجيش، حتى بدأوا يدسُّون دسائس شنيعة لقلب نظام حكومة أردغان–ما سمِّيت بـErgenek one ، ولما كشفت صحيفة تركيا أول من هذه المفبركات والمؤامرات، فأجرى أدرغان عملية التفتيش ضدَّ هؤلاء القواد الطغاة المتآمرين متخذا خطوة جريئة، وأقام الأشخاص المتمرِّدين أمام المحكمة العليا متوجها الاتهام إليهم، وإنَّ من مما لا يعقل في هذا الموقف، هو: أنَّ الإعلام الغربي الذي يخالف ويكره تدخُّل قواد الجيش في السياسة الدولة، أخذ بالعطف معهم، واتَّهم حكومة أردغان بانتقام سياسيٍّ من معارضيها، هذا هو مسلك الاستعمار أن يُّدخل أيَّ مشروع أو غير مشروع في أمور الدول النامية كي يجبرهم على حمايته، ولكن أردغان لم يستسلم، وكشف الستار عن المجرمين ومن يحميهم أمام الجمهور.

فحوة الكلام، أنَّ الغرب انتهزت فرصة عنقائية لإشعال فتيلة التظاهرات ضد مشروع المتاجر مكان منتزه الغازي في استنبول، وأثار هذه الاحتجاجات لفضح الحكومة التركية بدائيا، ولكن الغرب استغلَّت هذه الفرصة، وولّى وِجه التظاهرات نحو النظام الإسلامي لحكومة أردغان، ولم يعد الكلام يدور الآن في بيئات، بل وجِّهت التهمة إلى الحكومة بأنها تسلِّط نظاما إسلاميا على الشعب كرهاً.

ولم يخاطر ببال أحد منهم، أنَّ الحكومة لو أذنت بالحجاب عاما، فأيُّ خللٍ حدث بسببه في المجتمع؟ وإن حظرت المخامر، فأيُّ ضررٍ أصيب به القوم، ولم يتفوَّه أحدٌ منهم بأية كلمة عندما منع روسيا عن التدخين في المطاعم، والقطر، والطائرات، رغم أنَّ التدخين أقل ضرراً من الخمر، وعائد على الصحة، حيث بقرار منع الخمر انتهت شجارات عائلية وقلَّ عدد الجرائم وحوادث المرور، فلم اختلفت مقاييس الإعلام الغربي بين روسيا وتركيا.

وإني لأتأسَّف عندما أرى أن قوّاد الجيش، متَّبعي كمال أتاترك، كانوا أعداء للإسلام، حتى هتكوا أقدار شهر رمضان حين احتفلوا بيوم وطنيٍّ وسط شهر رمضان المبارك، لم يقم الشعب التركي ضدهم، وما عقَّدوا مثل هذه الاحتجاجات التي قاموا بها الآن لتدمير المنتزه الغازي، وإنشاء المتاجر مكانه، هل المنتزه الغازي أكثر قداسة من الإسلام.

ولو عُدنا واستسلمنا احترام المنتزه الغازي لديهم، فعليهم أن يقفوا عند هذا الحدّ، ولا يعتدوا على الإسلام ونظامه في تظاهراتهم استتارا بالمنتزه، ولكنَّما هذه هي نزعات الشيطان التي تستعمل لقلب النظام الذي نشأ في تونس نتيجة النهضة والثورة، والنظام الذي نشأ في مصر نتيجة فوز إخوان المسلمين في الانتخابات المصرية من قبل الجمهور، وغايتها أن تتسلَّط الأقلية المعدية للإسلام على أغلبية المسلمين، هل هذه هي مبادئ الديمقراطية الغربية التي يسانده الغرب وإعلامه دائماً.

ولكن من حكمة حكومة أردغان، أنها مازالت تدرعَّت بالصبر والبصيرة، ولم تستخدم الشرطة لتفريق المتظاهرين إلا الغازات المسيلة للدموع، والماء المتدفق الضاغط، وعلى هذا الحدِّ، قد قام رئيس الولايات المتحدة وحكام أوروبا بالجزع والفزع، وأظهروا قلقهم وبلبلتهم، أ نسي هؤلاء عند إظهار قلقهم على المياه وغازات مسيل الدموع، ما قامت به الشرطة الأمريكية سنة2012مـ بإلقاء الماء الممتزج بفلفل في عيون المتظاهرين القابضين على"وال ستريت"، واستخدمت عصاً دون أيِّ تردُّد وتأمُّل، قال أدرغان حقاّ متحدثاً إلى النقاد: على المنتقدين أن يتأمَّلوا في ما يقومون به ويتطلَّعوا إلى باطنهم ماذا فعلوا بشعوبهم؟

Altaf Moti
About the Author: Altaf Moti Read More Articles by Altaf Moti: 9 Articles with 4676 viewsCurrently, no details found about the author. If you are the author of this Article, Please update or create your Profile here.